فصل: ومن باب ما ينهى أن يستنجى به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب ما ينهى أن يستنجى به:

قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن مَوْهب الهمداني حدثني المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القِتباني أن شُييم بن بينان أخبره عن شيبان القتباني عن رُوَيفع بن ثابت قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصلُ والريشُ وللآخر القدح. ثم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا منه بريء».
النضو هاهنا البعير المهزول يقال بعير نضو وناقة نضو ونضوة وهو الذي أنضاه العمل وهزله الكد والجهد، وفي هذا حجة لمن أجاز أن يعطي الرجل فرسه أو بعيره على شطر ما يصيبه المستأجر من الغنيمة، وقد أجازه الأوزاعي وأحمد ولم يجز أكثر الفقهاء، وإنما رأوا في مثل هذا أجرة المثل.
وقوله: «وإن كان أحدنا ليطير له النصل» أي يصيبه في القسمة يقال طار لفلان النصف ولفلان الثلث إذا وقع له ذلك في القسمة والقدح خشب السهم قبل أن يراش ويركب فيه النصل، وفيه دليل على أن الشيء المشترك بين الجماعة إذا احتمل القسمة وطلب أحد الشركاء المقاسمة كان له ذلك ما دام ينتفع بالشيء الذي يخصه منه وإن قل ونزر وذلك لأن القدح قد ينتفع به عريا من الريش والنصل، وكذلك قد ينتفع بالنصل والريش وإن لم يكونا مركبين في قدح. فأما ما لا ينتفع بقسمته أحد من الشركاء وكان في ذلك الضرر والإفساد للمال كاللؤلؤة تكون بين الشركاء ونحوها من الشيء الذي إذا فرق بين أجزائه بطلت قيمته وذهبت منفعته فإن المقاسمة لا تجب فيه لأنها حينئذ من باب إضاعة المال ويبيعون الشيء ويقتسمون الثمن بينهم على قدر حقوقهم منه.
وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين: أحدهما ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم وذلك من زي الأعاجم يفتلونها ويعقدونها، وقيل معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث.
وأما نهيه عن تقليد الوتر فقد قيل إن ذلك من أجل العوذ التي يعلقونها عليه والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار وكانوا يرون أنها تعصم من الآفات وتدفع عنهم المكاره فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم ونهاهم عنه وقد قيل إن ذلك من جهة الأجراس التي يعلقونها بها. وقيل أنه نهى عن ذلك لئلا تختنق الخيل بها عند شدة الركض.
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شُريح الحمصي حدثنا ابن عياش عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن مسعود قال: «قدم وفد الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممةٍ فإن الله جعل لنا فيها رزقًا قال فنهى النبي صلى الله عليه وسلم».
الحمم الفحم وما أحرق من الخشب والعظام ونحوهما، والاستنجاء به منهي عنه لأنه جعل رزقًا للجن فلا يجوز إفساده عليهم، وفيه أيضًا أنه إذا مس ذلك المكان وناله أدنى غمز وضغط تفتت لرخاوته فعلق به شيء منه متلوثًا بما يلقاه من تلك النجاسة وفي معناه الاستنجاء بالتراب وفتات المدر ونحوهما.

.ومن باب الاستنجاء بالماء:

قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا ومعه غلام معه ميْضأةٌ وهو أصغرنا فوضعها عند السدرة فقضى حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء».
الميضأة شبه المطهرة تسع من الماء قدر ما يتوضأ به وفيه من العلم أن حمل الخادم الماء إلى المغتسل غير مكروه وأن الأدب فيه أن يليه الأصاغر من الخدم دون الكبار.
وفيه استحباب الاستنجاء بالماء وإن كانت الحجارة مجزية. وقد كره قوم من السلف الاستنجاء بالماء وزعم بعض المتأخرين أن الماء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذلك، والسنة تقضي على قوله وتبطله، وكان بعض القراء يكره الوضوء في مشارع المياه الجارية وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة أو ميضأة، وزعم أنه من السنة لأنه لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ على نهر أو شرع في ماء جار، قلت وهذا عندي من أجل أنه لم يكن بحضرته المياه الجارية والأنهار المطردة، فأما من كان في بلاد ريف وبين ظهراني مياه جارية فأراد أن يشرع فيها ويتوضأ منها كان له ذلك من غير حرج في حق دين ولا سنة.

.ومن باب السواك:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد عن سفيان، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة يرفعه قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة».
فيه من الفقه أن السواك غير واجب وذلك أن لولا كلمة تمنع الشيء لوقوع غيره فصار الوجوب بها ممنوعا ولو كان السواك واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق.
وفيه دليل أن أصل أوامره على الوجوب ولولا أنه إذا أمرنا بالشيء صار واجبا لم يكن لقوله لأمرتهم به معنى وكيف يشفق عليهم من الأمر بالشيء وهو إذا أمر به لم يجب ولم يلزم فثبت أنه على الوجوب ما لم يقم دليل على خلافه.
وأما تأخيره العشاء فالأصل أن تعجيل الصلوات كلها أولى وأفضل وإنما اختار لهم تأخير العشاء ليقل حظ النوم وتطول مدة انتظار الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم في صلاة ما دام ينتظر الصلاة».
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال: قلت: أرأيت توضؤ ابن عمر لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر عم ذلك فقال حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة».
قال: يحتج بهذا الحديث من يرى أن المتيمم لا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد وأن عليه أن يتيمم لكل صلاة فريضة. قال وذلك لأن الطهارة بالماء كانت مفروضة عليه لكل صلاة وكان معلومًا أن حكم التيمم الذي جعل بدلا عنها مثلها في الوجوب فلما وقع التخفيف بالعفو عن الأصل ولم يذكر سقوط التيمم كان باقيا على حكمه الأول وهو قول علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهما والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. فإن سئل على هذا فقيل فهلا كان التيمم تبعًا له في السقوط كهو في الوجوب؟ قيل الأصل أن الشيء إذا ثبت وصار شرعًا لم يزل عن محله إلا بيقين نسخ وليس مع من أسقطه إلاّ معنى يحتمل ما ادعاه ويحتمل غيره، والنسخ لا يقع بالقياس ولا بالأمور التي فيها احتمال.

.ومن باب الرجل يستاك بسواك غيره:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عنبسة بن عبد الواحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر فأوحى إليه في فضل السواك أن كَبِّر أي أعط السواك أكبرهما».
قوله: «يستن» معناه يستاك وأصله مأخوذ من السن، وهو إمرارك الشيء الذي فيه حزونة على شيء آخر ومنه المسن الذي يشحذ به الحديد ونحوه يريد أنه كان يدلك أسنانه.
وفيه من الأدب تقديم حق الأكبر من جماعة الحضور وتبديته على من هو أصغر منه وهو السنة في السلام والتحية والشراب والطيب ونحوها من الأمور. وفي معناه تقديم ذي السن بالركوب والحذاء والطست وما أشبه ذلك من الإرفاق.
وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه على ما يذهب إليه بعض من يتقزز إلاّ أن السنة فيه أن يغسله ثم يستعمله.

.ومن باب غسل السواك:

قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب، عَن أبي الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء، يَعني الاستنجاء بالماء».
قال مصعب بن شيبة: ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة. وفي رواية عمار بن ياسر أن رسول الله قال: «إن من الفطرة المضمضة والاستنشاق وذكر نحوه ولم يذكر إعفاء اللحية» وزاد: «والختان» قال: «والانتضاح» ولم يذكر انتقاص الماء.
قوله صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة» فسر أكثر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة وتأويله أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم لقوله سبحانه: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] وأول من أُمر بها إبراهيم صلوات الله عليه وذلك قوله تعالى: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [البقرة: 124].
قال ابن عباس: أمره بعشر خصال ثم عددهن فلما فعلهن قال إني جاعلك للناس إماما أي ليقتدي بك ويستن بسنتك وقد أمرت هذه الأمة بمتابعته خصوصا وبيان ذلك في قوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النحل: 123] ويقال إنها كانت عليه فرضًا وهن لنا سنة.
وأما إعفاء اللحية فهو إرسالها وتوفيرها كره لنا أن نقصها كفعل بعض الأعاجم وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب فندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة.
ويقال عفا الشعر والنبات إذا وفا وقد عفوته وأعفيته لغتان قال تعالى: {حتى عفوا} [الأعراف: 95] أي أكثروا.
وأما غسل البراجم فمعناه تنظيف المواضع التي تتشنج ويجتمع فيها الوسخ وأصل البراجم العقد التي تكون في ظهور الأصابع، والرواجب ما بين البراجم وواحدة البراجم بُرجمة.
وأما الختان فإنه وإن كان مذكورا في جملة السنن فإنه عند كثير من العلماء على الوجوب وذلك أنه شعار الدين وبه يعرف المسلم من الكافر، وإذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير مختتنين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين.
وحكي عَن أبي العباس بن شريح أنه كان يقول لا خلاف أن ستر العورة واجب فلولا أن الختان فرض لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته.
وأما انتضاح الماء الاستنجاء وأصله من النضح وهو الماء القليل، وانتقاص الماء الاستنجاء به أيضًا كما فسروه.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى المضمضة والاستنشاق غير واجبين في شيء من الطهارات ويراهما سنه كنظائرهما المذكورة معهما، إلاّ أنه قد يجوز أن يفرق بين القراين التي يجمعها نظم واحد بدليل يقوم على بعضها فيحكم له بخلاف حكم صواحباتها.
وقد روي أنه كره من الشاة سبعا: الدم، والمرارة، والحيا، والغدة، والذكر والأنثيين، والمثانة. والدم حرام بالإجماع وعامة المذكورات معه مكروهه غير محرمة.

.باب:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن منصور وحُصين عن أبى وائل عن حذيفة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك».
قوله: «يشوص» معناه يغسل يقال شاصه يشوصه، وماصه يموصه بمعنى واحد إذا غسله.

.ومن باب فرض الوضوء:

قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن قتادة، عَن أبي المليح عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غُلول».
فيه من الفقه أن الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة وتدخل فيها صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما من النوافل كلها.
وفيه دليل أن الطواف لا يجزي بغير طهور لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صلاة فقال الطواف صلاة إلاّ أنه أبيح فيه الكلام.
وفي قوله: «ولا صدقة من غلول» بيان أن من سرق مالًا أو خانه ثم تصدق به لم يجز وإن كان نواه عن صاحبه وفيه مستدل لمن ذهب إلى أنه إن تصدق به على صاحب المال لم تسقط عنه تبعته. وإن كان طعاما فأطعمه إياه لم يبرأ منه ما لم يعلمه بذلك. وإطعام الطعام لأهل الحاجة صدقة ولغيرهم معروف وليس من أداء للحقوق ورد الظلامات.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان، عَن أبي عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم».
فيه من الفقه أن تكبيرة الافتتاح جزء من إجراء الصلاة وذلك لأنه أضافها إلى الصلاة كما يضاف إليها سائر أجزائها من ركوع وسجود، وإذا كان كذلك لم يجز أن تعري مباديها عن النية لكن تضامها كما لا يجزيه إلاّ بمضامة سائر شرائطها من استقبال القبلة وستر العورة ونحوهما.
وفيه دليل أن الصلاة لا يجوز افتتاحها إلاّ بلفظ التكبير دون غيره من الأذكار وذلك لأنه قد عينه بالألف واللام اللتين هما للتعريف والألف واللام مع الإضافة يفيدان السلب والإيجاب وهو أن يسلبا الحكم فيما عدا المذكور ويوجبان ثبوت المذكور، كقولك فلان مبيته المساجد أي لا مأوى له غيرها، وحيلة الهم الصبر أي لا مدفع له إلاّ بالصبر ومثله في الكلام كثير.
وفيه دليل على أن التحليل لا يقع بغير السلام لما ذكرنا من المعنى ولو وقع بغيره لكان ذلك خُلْفا في الخبر.

.ومن باب الماء يكون في الفلاة:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عمر عن أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث».
هذا لفظ ابن العلاء وقال عثمان والحسن بن علي ومحمد بن عباد بن جعفر قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زُريع عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون في الفلاة فذكر معناه.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان الماء قلتين لا ينجس».
قلت: قد تكون القلة الإناء الصغير الذي تقله الأيدي ويتعاطى فيه الشرب كالكيزان ونحوها، وقد تكون القلة الجرة الكبيرة التي يقلها القوي من الرجال إلاّ أن مخرج الخبر قد دل على أن المراد به ليس النوع الأول لأنه إنما سئل عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض في المصانع والوهاد والغدرَان ونحوها. ومثل هذه المياه لا تحمل بالكوز والكوزين في العرف والعادة لأن أدنى النجس إذا أصابه نجسه فعلم أنه ليس معنى الحديث.
وقد روي من غير طريق أبي داود من رواية ابن جريج «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر». أخبرناه محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج. وذكر الحديث مرسلا وقال في حديثه بقلال هجر قال وقلال هجر مشهورة الصنيعة معلومة المقدار لا تختلف كما لا تختلف المكائل والصيعان والقرب المنسوبة إلى البلدان المحدودة على مثال واحد وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها لأن الحد لا يقع بالمجهول ولذلك قيل قلتين على لفظ التثنية ولو كان وراءها قلة في الكبر لأشكلت دلالته فلما ثناها دل على أنه أكبر القلال لأن التثنية لابد لها من فائدة وليست فائدتها إلاّ ما ذكرناه، وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب، ومنهم من قدرها بخمسمائة رطل.
ومعنى قوله: «لم يحمل الخبث» أي يدفعه عن نفسه كما يقال فلان لا يحتمل الضيم إذ كان يأباه ويدفعه عن نفسه فأما من قال معناه أنه يضعف عن حمله فينجس فقد أحال لأنه لو كان كما قال لم يكن إذًا فرق بين ما بلغ من الماء قلتين وبين ما لم يبلغهما، وإنما ورد هذا مورد الفصل والتحديد بين المقدار الذي ينجس والذي لا ينجس ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه لا ينجس» من رواية عاصم بن المنذر.
وممن ذهب إلى هذا في تحديد الماء، الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور وجماعة من أهل الحديث، منهم محمد بن إسحاق بن خزيمة.
وقد تكلم بعض أهل العلم في إسناده من قبل أن بعض رواته، قال عن عبد الله بن عبد الله، وقال بعضهم عبيد الله بن عبد الله، وليس هذا باختلاف يوجب توهينه لأن الحديث قد رواه عبيد الله وعبد الله معا. وذكروا أن الرواة قد اضطربوا فيه، فقالوا مرة عن محمد بن جعفر بن الزبير ومرة عن محمد بن عباد بن جعفر، وهذا اختلاف من قبل أبي أسامة حماد بن أسامة القرشي.
ورواه محمد بن إسحاق بن يسار عن محمد بن جعفر بن الزبير، فالخطأ من إحدى روايتيه متروك والصواب معمول به وليس في ذلك ما يوجب توهين الحديث وكفى شاهدا على صحته أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صححوه وقالوا به وهم القدوة وعليهم المعول في هذا الباب.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع نجسا لقوله وما ينوبه من الدواب والسباع فلولا أن شرب السباع منه ينجسه لم يكن لمسألتهم عنه ولا لجوابه إياهم بهذا الكلام معنى، وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه خاضتها وبالت فيها وتلك عادتها وطباعها وقلما تخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها، وقد ينتابها أيضًا في جملة السباع الكلاب وأسْآرها نجسة ببيان السنة.